اليوم: الجمعة الموافق 10 مايو 2024
الساعة: التاسعة مساءً
المكان: كل منزل كويتي شاهد الخطاب في بداية نشرة الأخبار الرئيسية عبر تلفزيون دولة الكويت
تمهيد:
“In democracy, the individual enjoys not only the ultimate power but carries the ultimate responsibility”
Norman Cousins
"الديمقراطية ليست مجرد نظام سياسي، بل هي فكرة وقيمة تتطلب العمل والوعي المستمر لتحقيقها والمحافظة عليها"
تسمّر الكويتيون أمام شاشة التلفاز تعلوا وجوههم الدهشة من الانقلاب الناعم الذي قاده أمير البلاد على "بعض" مواد الدستور على حد قوله، مبرراً ذلك بالواقع المرير والمصاعب والعراقيل والأوقات الصعبة التي واجهها عاجزاً عن الإصلاح مما لم يترك له مجالاً دون "تعليق العمل بالدستور وحل مجلس الأمة" على حد قوله كذلك، مستهلاً خطابه بآيات الطاعة متغافلاً عن آيات العدل وحرمة الظلم والجور.
وبعيداً عن قراءته الركيكة للخطاب إلا أن نقاطاً أثارها تسترعي الانتباه والتفحص والنقاش، إن هذا الانقلاب الناعم الذي حدث منذ عام يتطلب تحليلاً عميقاً وقراءة فاحصة لمجريات الأحداث التي أوصلت السلطة لحد التمادي وسلب أهم صلاحيات الشعب منه وهي المشاركة السياسية باختيار ممثليه إن صحت تسمية واقع الديمقراطية الكويتية بالمشاركة.
وإن كانت الحقيقة موجعة في تفاصيلها إلا أن الاعتراف بها ومعالجتها أنجع من الهروب دون مواجهة مشكلاتنا والتغافل عنها، فقد كانت الديمقراطية الكويتية منقوصةً تخلو من المحاسبة السياسية الحقيقية لتُضَخّمَ الاستجوابات التي تنتهي على مقصلة الخدمات، واكتفى أعضاء مجلس النواب بالزعيق والنعيق بين حزبين لا ثالث لهما "طبقة النفوذ التقليدي ممثلة بالشيوخ" و "النخبة الاقتصادية ممثلة بالتجار" لتُنحر حقوق المواطن على مذبح المصالح وممشى النفعية السرمدي.
حيث تمضي "القوى"، بخطى حثيثة، نحو تحقيق أهدافها، غير عابئة بقيم العدالة أو مبادئ الإنسانية. كل خطوة فيه تُحسب بميزان المكاسب والخسائر، تجلّت هذه الظاهرة بوضوح خلال فصول التجاذب المزمن بين البرلمان والحكومة.
تحت قبة مجلس الأمة، كثير من المشاريع والقوانين لم تكن انعكاسًا لحاجات المجتمع الحقيقية، بقدر ما كانت أوراق تفاوض وضغط في لعبة شد الحبل بين السلطتين.
في هذا المشهد، استمرّ الجميع بالبحث عن منفعتهم لكن سبقتهم السلطة لذلك وسلبت ما تبقى من فتات للشعب بالتمثيل السياسي الذي شابه الكثير من التشويه متذرعةً بالإصلاح وكأنها لم تكن سبباً فيه بالتدنيس والتضليل وقلب الحقائق وطمسها ليخرج هذا المسخ البعيد عن مفاهيم الديمقراطية واحترام الدستور والمحافظة على مبادئ الحرية والعدالة.
مما تسبب في تآكل الثقة الشعبية بالمؤسسات واستمراء الانقلاب في حينها دون أدنى مقاومة عدا تغريدات هنا وهناك أضحى أصحابها حبيسي الزنازين بتهم أقل ما يُقال عنها أنها ملفقة ومحاكمات سياسية تفتقر للعدل واحترام القانون وتتلقى الأحكام من كفيلها الأكبر دون اعتبار واحترام لمهنة القضاء ومنصب القاضي ودوره في إحقاق الحق ودفع الظلم.
تكيّف الناس مع واقعهم الجديد لأسباب عدة، خوفاً من القمع وهو أقوى الأسباب على الإطلاق أو حالة الإنهاك السياسي التي يعيشها الشعب لعقود من الصراعات والأزمات السياسية التي افتعلها أبناء السلطة وعكست على الشعب واقعاً مزرياً اضطرهم للقبول بأي شكل من أشكال "الاستقرار" الظاهري، أو حتى بحثاً عن أمان مزيف زادهم بطش وزير الداخلية الذي تجرد من الحكمة والمسؤولية بُعداً عنه، وقطاع آخر من الشعب سلّم عقله لرواية إعلام وأبواق النظام الذي يعيد صياغة الرواية لمصلحته دائماً رغم تواتر أخبار وقضايا فسادهم التي تناقض رواية "مصلحة البلاد والعباد"، ولا نغفل عن مهارة السلطة العالية بتجزئة المجتمع لكويتي أصلي وغير أصلي بخسة تعكس اعتلالهم بالشعور بالفوقية الجوفاء، ولست أبالغ حين أقول أن انعدام البدائل أو على الأقل "ضعف" البدائل على الساحة السياسية زرع في قلوب الناس الخوف من المجهول أو كرّس في أذهانهم أن الواقع الحالي أفضل من الفوضى.
مع تفاقم هذه العوامل، بدت ملامح الاستسلام تتجلى على المشهد العام، مما حدى بالمواطن الكويتي أن يتأرجح بين آمال الإصلاح وخوف الانهيار، فاستسلام تدريجي وتكيف والبحث عن ملاذاتٍ صغيرة وسط العواصف الكبرى.
إن التكيف مع الانقلاب ليس قدراً مكتوباً، ولا خيارًا حتميًا تُفرضه سطوة القوة وحدها.
الشعوب الحية لا تقبل أن تُساق إلى حتفها السياسي وهي صامتة، ولا تبيع إرادتها بثمن الاستقرار الزائف. في اللحظة التي يتنازل فيها المواطن عن حقه في الدفاع عن دستوره، يتحول من شريك في الحكم إلى تابع خانع.
الدساتير لم توضع لتُزين بها واجهات الأنظمة، بل لتكون عقدًا مقدسًا بين الأمة وسلطتها، تحفظ الحقوق وتصون الكرامة. وإن كل استسلام لصوت القهر، وكل تواطؤ بالصمت، إنما هو خيانة للوطن والأمة، وتفريط في الأمانة.
ليس المطلوب ثورة تهدم، بل إرادة تصلح، وقوة شعبية تفرض احترام الدستور كمرجعية لا تُمس. فمن يطأطئ الرأس، لن يجد في نهاية الطريق وطناً يستحق الحياة.